لم يكن مساء الإثنين 7 يوليو عابرًا. فالشرارة التي اندلعت في غرفة أجهزة بالدور السابع لسنترال رمسيس، بفعل ماس كهربائي – حسب التحقيقات الأولية – تحولت خلال دقائق إلى كرة لهب حقيقية، التهمت طوابق من المبنى، وخلفت وراءها انقطاعًا واسعًا في خدمات الاتصالات، الإنترنت، بعض المعاملات المصرفية، بل وتعليقًا كاملاً لجلسة تداول البورصة المصرية.
كيف بدأ كل شيء؟
وفق تقارير الدفاع المدني والمعمل الجنائي، بدأ الحريق في إحدى غرف المعدات، بسبب ماس كهربائي، لكنه ما لبث أن امتد سريعًا عبر الكابلات وأجهزة التحكم في الأدوار العليا. رغم تدخل سيارات الإطفاء، استمر الحريق لساعات، مسفرًا عن وفاة أربعة موظفين وإصابة آخرين، في أكبر حادث تشهده منظومة الاتصالات المركزية منذ عقود.
انقطاع ثم قرارات عاجلة
فورًا، بدأت تظهر التداعيات:
تعطلت خدمات الإنترنت الأرضي بالكامل في مناطق واسعة بالقاهرة الكبرى، وأجزاء من أكتوبر والشيخ زايد.
توقفت خدمات عدد من شركات الدفع الإلكتروني، وخدمات الاتصالات الثابتة.
تم تعليق جلسة البورصة المصرية بالكامل يوم الثلاثاء 8 يوليو، للمرة الأولى منذ سنوات، نتيجة تعطل خطوط الربط مع المقاصة وشركات التداول.
الحكومة، وعلى رأسها وزارة الاتصالات، أعلنت حالة الطوارئ. عاد الوزير عمرو طلعت من زيارة خارجية عاجلة، وزار موقع الحريق، مؤكدًا أمام لجنة الاتصالات في البرلمان أن:
> “رغم ضخامة الحريق، إلا أن ما حدث كشف الحاجة الماسّة لتحديث خرائط الاعتماد الرقمي وتوسيع الاعتماد على البنية التحتية الاحتياطية.”
ماذا كشف الحريق؟
الحريق كشف حقائق مهمة ،فسنترال رمسيس – الذي يُفترض أن يكون مجرد نقطة من ضمن شبكة – كان في الحقيقة مركزًا محوريًا حساسًا، تمر منه الخطوط الرئيسية، وتُدار منه بوابات الربط بين مقدمي الخدمة.
ما حدث أعادنا إلى سؤال جوهري:
> هل كنا نعتمد على نقطة ضعف واحدة في جسد رقمي متكامل؟
وهل نملك فعلًا بنية احتياطية جاهزة وقت الأزمات، أم مجرد خطط حبر على ورق؟
من نجا.. ومن استعد مسبقًا؟
وسط هذا الارتباك، برزت شركات ومؤسسات تعاملت مع الأزمة بثبات وثقة. هؤلاء هم من استثمروا مبكرًا في خطة استمرارية أعمال (BCP)، ونشروا مراكز بيانات بديلة، وشبكات ربط متعددة، تفعل تلقائيًا وقت الخطر.
فوري للمدفوعات الإلكترونية
قال رئيسها التنفيذي، أشرف صبري:
> “تأثرت الشبكة قليلا كغيرها ، وتم استعادة دورة العمل بالكامل بعد وقت قصير بفضل البنية التحتية القائمة على الربط الجغرافي المتكرر.”
و عاودت خدمات فوري العمل بعد ساعات قليلة ، بما فيها شحن الكهرباء والدفع الحكومي.
إي فاينانس
الذراع التكنولوجية للحكومة أكدت أن خدمات التحصيل الضريبي والدفع الإلكتروني استمرت دون تعطل، بفضل “نظام استجابة تلقائية” وبنية بيانات موزعة.
فودافون مصر
أعلنت عبر مسؤولها القانوني أيمن عصام أن:
> “أغلب خدمات الشركة الرقمية تم استعادتها خلال ساعات، لأن بنيتنا التحتية موزعة جغرافيًا ولا تعتمد على مركز واحد.”
و رغم تأخر معظم شبكات الانترنت الارضي بسبب اعتمادها جميعا علي أعمال الشركة المصرية للاتصالات الا ان الموقف الحالي هو معاودة معظم شبكات الانترنت الارضي
وزارة المالية
استمرت في تقديم خدماتها دون توقف، إذ تعتمد على بنية تقنية مؤمنة تديرها شركات احترافية على رأسها إي فاينانس.
من لم يستعد.. دفع الثمن
في المقابل، اختفت شركات أخرى عن المشهد. لا بيان، ولا اعتذار، ولا محاولة للشرح. بدا واضحًا أن كثيرًا منها يعتمد على “السلامة الظرفية” أكثر من أي نظام فعلي لاستمرارية الخدمة.
هل هذا طبيعي؟ ماذا عن العالم؟
في مارس 2021، شبّ حريق ضخم بمركز بيانات تابع لشركة OVH الفرنسية، لكن فرنسا لم تشهد انقطاعًا بحجم ما حدث في القاهرة. لماذا؟ لأن البنية هناك موزعة على مراكز متعددة جغرافيًا، مع نسخ فورية، وأنظمة سحابية احتياطية تُستدعى تلقائيًا عند الخطر.
الرقمنة الحقيقية تبدأ من البنية
التحول الرقمي ليس منصة على الإنترنت. هو منظومة تبدأ من البنية التحتية: من توزيع الخوادم، تكرار الربط، خطط الإخلاء الرقمي، والجاهزية الفورية.
منصة الدفع، التطبيق البنكي، أو حتى شبكة الاتصالات لا تعني شيئًا دون حماية مركزية للبنية ذاتها.
ما بعد الحريق
ما حدث لم يكن مجرد كارثة تشغيلية، بل تحذير مدوٍ بأن رقمنة الدولة بحاجة إلى مراجعة جذرية. من غير المقبول أن ترتكز الخدمات السيادية على مركز واحد قابل للاشتعال.







